فصل: تفسير الآيات (1- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.سورة عبس:

مكيّة وهي إحدى وأربعون آية، ومائة وثلاثون كلمة، وخمس مائة وثلاثة وثلاثون حرفاً.
أخبرنا ابن المقري قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدّثنا ابن شريك قال: حدّثنا ابن يونس قال: حدّثنا سلام قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 32):

{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}
{عَبَسَ} كلح. {وتولى} وأعرض عنه بوجهه {أَن} لأن {أَن جَآءَهُ الأعمى} وهو ابن مكتوم واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي، وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبيا وأمية ابني خلف ويدعوهم إلى الله سبحانه ويرجوا إسلامهم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرئني وعلّمني مما علّمك الله، فجعل يناديه ويكرّر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه وقال في نفسه يقول: هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد فعبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه وأقبل على القوم يكلّمهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه وإذا رآهُ قال: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي» ويقول: «هل لك من حاجة» واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما قال أنس بن مالك: فرأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء، قال ابن زيد كان يقال: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الوحي لكتم هذا.
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} أي يتطهّر من ذنوبه ويتّعظ ويصلح، وقال ابن زيد: يسلم.
{أَوْ يَذَّكَّرُ} يتعظ {فَتَنفَعَهُ الذكرى} الموعظة، وقراءة العامة فتنفعه بالرفع نسقاً على قوله يزّكى ويذكر، وقرأ عاصم في أكثر الروايات بالنصب على جواب لعل بالفاء.
{أَمَّا مَنِ استغنى} اثرى {فَأَنتَ لَهُ تصدى} تتعرّض وتصغي إلى كلامه قال الراعي: {تصدى} لوّضاح كان جبينه سراج الدجى تجبى إليه الأساور، وقرأ أهل الحجاز وأيوب تصّدى بتشديد الصاد على معنى يتصدى، وقرأ الباقون بالتخفيف على الحذف.
{وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى} أن لا يسلم أن عليك إلاّ البلاغ {وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى} يمشي يعني الأعمى {وَهُوَ يخشى} الله سبحانه {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} تعرض وتتغافل وتتشاغل بغيره {كَلا} ردع وزجر أي لا تفعل مثلها بعدها فليس الأمر كما فعلت من إقبالك على الغني الكافر وإعراضك عن الفقير المؤمن.
{إِنَّهَا} يعني هذه الموعظة، وقيل: هذه السورة، وقال مقاتل: آيات القرآن {تَذْكِرَةٌ} موعظة وتبصرة {فَمَن شَآءَ} من عباد الله ذكره اتّعظ به، وقال مقاتل: فمن شاء الله ذكّره، أي فهّمه واتعض به إذا شاء الله منه ذلك وذكّره وفهمه، والهاء في قوله: {ذَكَرَهُ} راجعة إلى القرآن والتنزيل والوحي أو الوعظ.
{فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} يعني اللوح المحفوظ، وقيل: كتب الأنبياء عليهم السلام، دليله قوله سبحانه: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى}
[سورة الأعلى: 18].
{مَّرْفُوعَةٍ} رفيعة القدر عند الله {مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قال ابن عباس ومجاهد: كتبة وهم الملائكة الكرام الكاتبون واحدهم سافر، ويقال: سفرت أي كتبت ومنه قيل للكتاب سفر، وجمعه أسفار، ويقال للورّاق سفّرا بلغة العبرانية وقال قتادة: هم القرّاء، وقال الباقون: هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم للصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم، قال الشاعر:
فما ادع السفارة بين قومي ** ولا أمشي بغير أب نسيب

وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا الصلت بن مسعود قال: حدّثنا جعفر بن سلمان قال: حدّثنا عبد الصمد بن معقل قال: سمعت عمّي وهب بن منبّه {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قال: هم أصحاب محمد.
{كِرَامٍ بَرَرَةٍ} جمع بار وبرّ مثل كافر وكفرة وساحر وسحرة.
{قُتِلَ الإنسان} لعن الكافر سمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز يقول: قال ابن عطا: منع الإنسان عن طريق الخيرات بجهله بطلب رشده وسكونه إلى ما وعد الله له، قال مقاتل: نزلت في عتبة بن أبي لهب {مَآ أَكْفَرَهُ} بالله وأنعمه مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده على طريق التعجّب، وقال الكلبي ومقاتل: هو {مَآ} الاستفهام تعني أي شيء يحمله على الكفر.
{مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} أي طريق خروجه من بطن أمّه، وقال الحسن ومجاهد: يعني طريق الحق والباطل بيّن له ذلك وسهل له العمل به، دليله قوله سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} [الإنسان: 3] و{هَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10] وقال أبو بكر بن طاهر: يسّر على كل أحد ما خلقه له وقدّر عليه، دليله قوله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له».
{ثُمَّ أَمَاتَهُ} قبض روحه {فَأَقْبَرَهُ} صيّره بحيث يقبر ويدفن يقال: قبرت الميت، إذا دفنته، وأقبره الله أي صيّره بحيث يقبر وجعله ذا قبر ويقول العرب: بُترت ذنب البعير والله أبتره، وعضبت قرن الثور والله أعضبه، وطردتُ فلاناً والله أطرده أي صيّره طريدا، وقال الفراء: معناه جعله مقبوراً، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير ولا ممن يلقى في النواويس، فالقبر مما أكرم به المسلم، وقال أبو عبيدة فأقبره أي أمر بأن يُقبر، قال: وقالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل صالح بن عبد الرحمن: أقبرنا صالحاً فقال: دونكموه.
{ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} أحياه بعد موته.
{كَلاَّ} ردّ عليه أي ليس الأمر كما تقول ونظر هذا الكافر، وقال الحسن: حتماً.
{لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} أي لم يفعل ما أمرهُ به ربّه ولم يؤدّ ما فرض عليه {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} كيف قدر ربّه ودبّره وليكون له آية وعبرة، وقال مجاهد: إلى مدخله ومخرجه.
أخبرنا ابن فتحوية قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا أحمد بن عبد الملك قال: حدّثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد بن جدعان عن الضحاك بن سفيان الكلابي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ضحاك ما طعامك؟» قال: يا رسول الله اللحم واللبن، قال: «ثم يصير إلى ماذا؟» قال: إلى ما قد علمت. قال: «قال الله سبحانه وتعالى: ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا».
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني محمد بن عبدالرحيم أبو يحيى قال: حدّثنا أبو حذيفة قال: حدّثنا سفيان عن يونس عن عبيد عن الحسن عن عتيّ عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ مطعم ابن آدم جُعل مثلا للدنيا وان قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير».
وأخبرني ابن فنحويه قال: حدّثنا ابن صقلاب قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا سهل بن عامر قال: حدّثنا عمر بن سليمان عن ابن الوليد قال: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر إلى ما يخرج منه، قال: يأتيه الملك فيقول انظر إلى ما بخلت به إلى ما صار؟
{أَنَّا} قرأ الكوفيون بفتح الألف على نية تكرير الخافض، مجازه: ولينظر إلى أنّا، غيرهم بالكسر على الإستئناف.
{صَبَبْنَا المآء صَبّاً} يعني الغيث {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} بالنبات {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً} قال ابن عباس والضحاك: يعني الرطبة، وأهل مكة يسمون القتّ القضيب، قال ثعلب: سمي بذلك لأنه يقضب في كل أيام أي يقطع، وقال الحسن: القضبّ العلف.
{وَزَيْتُوناً} وهو الذي منه الزيت {وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً} غلاظ الأشجار واحدها أغلب ومنه قيل لغليظ الرقبة أغلب، وقال مجاهد: ملتفة، ابن عباس: طوالا، قتادة: الغلب النخل الكرام، عكرمة: عظام الأوساط، ابن زيد: عظام الجذوع والرقاب.
{وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} يعني الكلاء والمرعى، وقال الحسن: هو الحشيش وما تأكله الدواب ولا تأكله الناس، قتادة: أما الفاكهة فلكم وأما الأبُ فلأنعامكم، أبو رزين: النبات، يدل عليه ما روى ابن جبير عن ابن عباس قال: ما أنبتت الأرض مما تأكل الناس والأنعام. علي بن أبي طلحة عنه: الأبّ: الثمار الرطبة. الضحّاك: هو التبن. عكرمة: الفاكهة: ما يأكل الناس، والأب: ما يأكل الدواب.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا محمد بن عبيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي إن أبا بكر سئل عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فقال: أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وأخبرنا ابن حمدون قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال: أخبرنا أبي عن صالح عن ابن شاب عن أنس بن مالك أخبره أنه سمع هذه الآية ثم قال: كلّ هذا قد عرّفنا فما الأب ثم رفض عصاً كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكليف وما عليك يابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال: اتبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه.
{مَّتَاعاً لَّكُمْ} يعني الفاكهة {وَلأَنْعَامِكُمْ} يعني العشب.

.تفسير الآيات (33- 42):

{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}
{فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة} يعني صيحة القيامة، سمّيت بذلك لأنها تصخّ الأسماع أي تبالغ في إسماعها حتى كاد تصمّها.
{يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ} لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه وقيل: حذراً من مطالبتهم إيّاه لما بينه وبينهم من التبعاتّ والمظالم، وقيل: لعلمه بأنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه من الله شيئاً.
سمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت عبد الله بن طاهر الأبهري يقول في هذه الآية: يفر منهم إذا ظهر له عجزهم وقلّة حيلتهم إلى مَنْ يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد سوى ربّه الذي لا يعجزه شيء، ويمكن من فسحة التوكّل واستراح في ظل التفويض.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلّد قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا إسحق بن بشر قال: أخبرني شيخ لنا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم وأول من يفر من أمه إبراهيم وأول من يفر من إبنه نوح، وأول من يفر من أخيه هابيل بن آدم، وأول من يفر من صاحبته نوح ثم لوط، ثم تلا هذه الآية {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} وقال يروون أن هذه الآية نزلت فيهم.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس قال: أخبرنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا أبو حنيفة محمد بن عمرو قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا خليد بن دعلج عن قتادة في قول الله سبحانه {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} قال: يفرّ هابيل من قابيل وأمه وأبيه، قال: يفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه وإبراهيم من أبيه وصاحبته وبنيه، قال: لوط من صاحبته ونوح من ابنه.
{لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} يشغله عن شأن غيره قال خفاف:
ستغنيك حرب بني مالك ** عن الفحش والجهل في المحفل

قال الفراء: وقرأ بعض القراء وهو ابن محيض {بعينه} وهو شاذ.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا ابن أبي أوس قال: حدّثنا أبي عن محمد بن عياش عن عطاء بن بشار عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُبعث الناس حفاة عراة عزلا قد ألجمهم العرق، وبلغ شحوم الآذان».
فقلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال: «قد شُغل الناسُ {لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}».
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} مشرقة مضيئة، يقال: أسفر الصبح إذا أضاء {ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} فرحة.
أخبرنا الحسين قال: حدّثنا أبو علي الحسين بن أحمد الفامي قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال: حدّثنا يحيى بن معين قال: أخبرنا إسحاق بن الأشعث عن شمر بن عطية عن عطاء في قول الله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} قال: من طول ما اغبرت في سبيل الله.
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} غُبار، ذكر أن البهائم التي يصيّرها الله سبحانه تراباً بعد القضاء بينها حُوِّلَ ذلك التراب في وجوه الكفرة {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} ظلمة وكآبة وكسوف وسواد، قال ابن عباس: يغشاها ذلّة، قال ابن زيد: الفرق بين الغبرة والقترة أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء، والغبرة ما كان أسفل في الأرض {أولئك} الذين يصنع بهم هذا {هُمُ الكفرة الفجرة}.

.سورة التكوير:

مكيّة وهي تسع وعشرون آية، ومائة وأربع كلمات، وخمس مائة وثلاثون حرفاً.
حدّثنا الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرخي إملاء قال: أخبرنا أبو الوفاء المؤمّل بن عيسى الماسرخي قال: حدّثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: حدّثنا إبراهيم بن خالد قال: حدّثنا يحيى بن عبدالله بن القاص قال: سمعت عبدالرحمن بن زيد الصناعي يقول: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يُنظر إلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت».
وأخبرني سعيد بن محمد قال: أخبرنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن عبدالله قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد عن مسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ {إذا الشمس كوّرت} أعاذه الله سبحانه وتعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 10):

{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)}
{إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أظلمت، عطية عنه: ذهبت، مجاهد: أضمحلت، قتادة: ذهب ضوؤها، سعيد بن جبير: عوّرت وهي بالفارسية كوريكرد. أبو صالح: نكست، وعنه أيضاً: أُلقيت، يقال: طعنه فكوّره، أي: ألقاه، ربيع بن هيثم: رُمي بها. واصل التكوّر في كلام العرب جمع بعض الشيء إلى بعض كتكوير العمامة، وهو لفّها على الرأس، وتكوير الكارة من النبات، وهو جمع بعضها إلى بعض ولفّها، فمعنى قوله: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ}: جمع بعضها إلى بعض، ثم لف فرمي بها وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوئها، دليله ونظيره قوله سبحانه {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9].
{وَإِذَا النجوم انكدرت} أي تناثرت من السماء فتساقطت على الأرض ويقال: انكدر الطائر أي سقط عن عشّه.
قال العجاج:
أبصر ضربان فضاء فانكدر.... وانكدر القوم إذا جاؤا أرسالا حتى انصبوا عليهم، قال ذو الرمّة:
فانصاع جانبه الوحشي وانكدرت ** يلجبن لا يأتلي المطلوبُ والطّلبُ

ابن عباس: تغيّرت.
{وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} عن وجه الأرض فصارت هباء منبثاً {وَإِذَا العشار} وهي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر واحدتها عُشراء، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزّها عليهم. {عُطِّلَتْ} سُيّبت وأهملت تركها أربابها وكانوا [....] لأذنابها فلم تركب ولم تحلب، ولم يكن في الدنيا مال أعجب إليهم منها. لاتيان ما يشغلهم عنها.
{وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ}.
أخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا ابن حبيب قال: حدّثنا أبو العباس البرتي قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا سفيان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} قال: حشرها موتها، وقال ابن عباس: حشر كلّ شيء الموت غير الجنّ والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة، وقال أُبيّ بن كعب وإذا {الوحوش حُشِرَتْ} أي اختلطت. قتادة: جمعت، وقيل: بعثت ليقضي الله بينها.
{وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} قرأ أهل مكّة والبصرة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد، واختلفوا في معناه فقال ابن زيد وشمر بن عطيّة وسفيان ووهب: أُوقدت فصارت ناراً.
قال ابن عباس: يكوّر الله الشمس والقمر والنجوم في البحر فيبعث عليها ريحاً دبوراً فينفخه حتى يصير ناراً.
وقال مجاهد ومقاتل والضحّاك: يعني فجر بعضها في بعض العذب والملح فصارت البحور كلّها بحراً واحداً.
قال الحلبي: ملئت، ربيع بن حيثم: فاضبّت، الحسن: يبست، قتادة: ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة، وقتل: صارت مياهها بحراً واحد له من الحميم لأهل النار.
وأخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا الحسن بن الحريث قال: حدّثنا الفضل موسى عن الحسين بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: حدّثني أُبيّ بن كعب قال: ستّ آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فجردت واضطربت واحترقت وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش وماج بعضهم في بعض فذلك قوله سبحانه {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} قال: اختلطت {وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ} قال: أهملها أهلها {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} قال: قالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر فإذا هي نار تأجج.
قال: فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة العليا، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم.
{وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} أخبرنا الحسن قال: أخبرنا السُني قال: أخبرنا أبو يعلي قال: حدّثنا محمد بن بكار قال: حدّثنا الوليد بن أبي نور عن سماك عن النعمان بن بشير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} قال: الضرباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله».
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن خالد قال: حدّثنا أحمد بن خالد الوهبي قال: حدّثنا إسماعيل عن سماك بن حرب إنّه سمع النعمان بن بشير يقول: قال عمر بن الخطاب: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} قال: الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح، قال ابن عباس: ذلك حتى يكون الناس أزواجاً ثلاثة، وقال الحسن وقتادة: أُلْحِقَ كلّ امريء بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى، الربيع بن خيثم بحشر المرء مع صاحب عمله: مقاتل: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين نظيرها {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، وقيل: زوجت النفوس بأعمالها.
وأخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا حمد بن الأزهر قال: حدّثنا أسباط عن أبيه عن عكرمه في قوله سبحانه: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} قال زوّجت الأرواح في الأجساد.
{وَإِذَا الموءودة} وهي الجارية المقتولة المدفونة حيّة سمّيت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيؤدها أي يثقلها حتى تموت، قالوا: وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحيها ألبسها جبّة من صوف أو شعر ترعى الإبل والغنم في البادية وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال أبوها لأمها طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئراً في الصحراء فإذا بلغ بها البئر قال لها: انظري إلى هذا البئر فيدفعها من خلفها في البئر لم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض، فذلك قوله سبحانه وتعالى {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} [النحل: 59] وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاماً حبسته، وكانت طوائف من العرب يفعلون ذلك وفيه يقول قائهلم:
سميتها إذ ولدت تموت ** والقبر صهر ضامن رميت

وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه فعاب الله تعالى ذلك عليهم وأوعدهم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان أن قال: حدّثنا الفراتي قال: حدّثنا محمد بن مهدي الأبلي ويحيى بن موسى قالا: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس عن سماك ابن حرب عن النعمان بن بشير قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في قول الله سبحانه: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وأدت ثمان بنات في الجاهلية، قال: «فأعتق عن كلّ واحدة منهم رقبة».
قال: يا رسول الله إني صاحب إبل. قال: «فانحر عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت».
{سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} قراءة العامة على الفعل المجهول فيهما، ولها وجهان: أحدهما: سئلت هي فقيل لها: بأي ذنب قتلت وبأي فجور قتلت؟ كما يقال: قال عبدالله إنه ذاهب وإني ذاهب، وقال عبد الله بأي ذنب ضربت وبأي ذنب ضرب، كلاهما سائغ جائز، والآخر: سُئل عنها الذين وأدوها كأنّك قلت: طلبت منهم فقيل: أين أولادكم وبأي ذنب قتلتموهم.
وأخبرنا الحسن بن محمد بن عبد الله المقريء قال: أخبرنا البغوي ببغداد قال: حدّثنا ابن أبي شيبة قال: حدّثنا زياد بن أيوب دلويه قال: حدّثنا هشام عن رجل ذكروا أنه هارون، قال زياد: ولم اسمعه أنا من هاشم عن جابر بن زيد أنه كان يقرأ {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} ومثله قرأ أبو الضحى ومسلم بن صبح.
{وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} قرأ أهل المدينة والشام والبصرة إلاّ أبا عمرو بالتخفيف غيرهم بالتشديد لقوله سبحانه {صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52].
أخبرني الحسين قال: حدّثنا هارون قال: حدّثنا اليسيّري قال: حدّثنا سعيد بن سليمان عن عبد الحمد بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن أبي موسى عن عطاء بن بشار عن أم سلمه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة» قالت يا رسول الله كيف بالنساء؟ قال: «شغل الناس يا أم سلمة» قالت: وما شغلهم قال: «نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل».